كنت قد دخلت بالشهر السادس.. مللت المكوث في المنزل.. واعدت يسرا بأن نلتقي في الحديقة العامة.. كان الجو رائعا.. كنا قد خففنا ارتداء ملابسنا الثقيلة فالجو بارد لكنه رائع بالنسبة للشهور السابقة.. دار بيننا حوار خلال تمشيتنا تلك.. : سالي.. بترجعون ابها؟؟
- اذا خف معاذ يصير خير..
- هو صار يتكلم معك.. صح؟؟
- ايوه.. بس ما يقدر يتحرك.. حالته صعبه..
- أوه.. الله يشافيه..
- بس بيني ويبنك.. حبيت الحياة هنا.. ما أبغى ارجع السعودية.. يا ليت لو نستقر..
- بالعكس.. انتظر الساعة اللي نرجع فيها للسعودية.. اشتقت لأهلي.. وصاحباتي.. حتى مربيتي المغربية إشتقت لها.. تخيلي ربتني من صغري.. وإختي مربيتها جزائرية.. متعلقة فيها مرة.. انتي مربيتك اش جنسيتها..
- آه.. ضحكتيني بسؤالك يا يسرا.. خلني من المربية.. أنا صار لي فترة أهل معاذ يتصلون.. ويسألون عنه وأنا أصرف.. أخاف يجون هنا.. ويرجعونا غصب..
- أنا ما ادري ليه يا سالي ما تبين ترجعين؟؟
هطلت قطرات مطر هادئة.. شعرت بها على جسدي.. تذكرت قطرات المطر الممزوجة بالتربة والتي تقطر في أنحاء متفرقة من سقف المنزل.. تذكرت أمي التي تضع صحون وأحيانا قدور لمنع ذلك.. وبعد انتهاء المطر.. تبقى الآثار البنية تعطي علامتها على جدران كل غرفة..كانت بيئة متلوثة.. كانت آمالي على أن يصبح معاذ غنيا كي أعود فتاة شريفة.. وسيدة مثلك يا يسرا.. خصوصا أن معاذ.. قد يموت وقد يكمل حياته عاجزا.. في النهاية سأعود لذلك المنزل..
.....................................................................
كنت قد افتتحت مرسمي بالمنزل.. بدأت أرسم اللوحة.. رسمت تفاصيل شكل لوجه بدون ملامح.. شعرت بأحدهم خلفي.. التفتت وانا ادعو: "من.. ؟؟ليزا!! " التقت عيني بعيني بدر.. قلت وكأنني أتظاهر بالسعادة لأخفي ارتباكي..
- مرحبا.. بدر.. كيف حالك؟؟
مددت يدي لك لأصافحه.. ابتسم مستغربا حسن تعاملي معه.. رفع يدي وقبلها.. تظاهرت بأن ذلك عادي..
- بخير..
أنزلت الفرش والألوان.. فأمسك بيدي وقال: كملي.. أحب ان أراك وأنتي ترسمين
- شكرا لأنك تطمن علي.. بصراحة أنا..
اقترب مني بدر.. وأغلق زرار بجامتي المفتوح.. كنت تبتسم عنما تحسست نبضات قلبي الذي يكاد يقفز من صدري.. سقطت الفرشاة من يدي لما دعتني السيدة اليزا .. تركته وذهبت إليها.. انا مدينة لها .. أنقذتني من هذا الموقف المحرج.. كانت تعاتبني.. تقول: أخبرتني أن دينك يرفض ما تفعلينه مع بدر.. كيف تريدين أن تحترمك دولتك الإسلامية وتحقق لك ما تتمنينه و أنتي لا تحترمين دينك وعاداتك.. كيف تقولين أن الله ضمن لنا السعادة إذا أطعناه.. وسنصبح تعساء إن عصيناه.. يا للعار!! لن أسمح لك بمقابلته مرة أخرى..
خطبة دينية رائعة بلسانك يا اليزا.. تنهيني عن المنكر وأنتي نصرانية الديانة.. كلا.. إنها رسالة الاهية .. أنطقك الله بها..
..........................................................
انتفضت وأنا نائمة.. وجدت بدر بجواري.. يهدئني.. ويسكب لي كوبا من الماء.. شربته وبعيني استفهام عن وجوده في ساعة متأخرة من الليل.. وقفت وإتأكت على النافذة.. كنت تنظر تجاهي على الرغم إضاءة الشارع الخافتة.. كانت عينيك تلمع بزرقة نور الشارع.. كنت مضطرب لدرجة أنني خفت منك.. خفت أن يؤذيني.. مع أنني أثق أنك الوحيد الذي لن يؤذيني.. سألتك لأجس نبضك: بدر انت متضايق؟؟
- ايه متضايق؟؟ متضايق حيــــــل..
- في مشاكل بينك وبين يسرا؟؟
- سالي أنا أحس بكآبة..
- من؟؟
- سالي إنتي مو حاسة بشيء!!
رفعت جسمي بصعوبة.. وأنزلت قدمي.. قفز بدر يقول: ارتاحي انتي وأنا رح أجيك..
جلس بجواري.. أمسك بمعصمي.. ثم قال: ساعتك رائعة..
قالها مع أنه كان يتحسس جسدي.. لا ساعتي.. طال الصمت وهو يتنهد.. وأنا أحدق للأسفل.. أمسك بإحدى خصلات شعري فقلت:
- ليش داخل مع الشباك؟؟
- هالعجوز منعتني أدخل البيت..؟؟ تقول حرام.. هي أسلمت!!
ضحكت ثم قلت: طيب قول اللي بخاطرك!!
- أقول وما تزعلين!!
- .. ..
- رح أقول كل شي.. بس اسمعيني للنهاية.. إعتبريها مشكلة وساعديني أحلها..
- طيب..
- أحبك .. أحبك.. .. كنت أحب يسرا حب مجانين.. بس من شفتك.. ما أعرف إش صار لي.. أنا.. ..
ـ خفض رأسه للأسفل.. لم أعرف ماذا أفعل.. وضعت يدي فوق يده.. فشعرت بقطرات دموعه فوق يدي.. أكمل يقول:
- أنا أحتقر نفسي.. لأني أخون يسرا.. وأخون صديقي.. بس صدقيني غصب عني.. كل اللي يصير لي ما لي سيطرة عليه..
منظر مؤلم رؤية رجل يبكي من أجل امرأة.. يعشقها ويتمناها..ولا يستطيع أن يجعلها ملكا له..
................................................................................
وضعت يدك يا معاذ على بطني بعد أن طلبت مني ذلك.. شعرت بابنك يتحرك في أحشاءي.. تمنيت أن أسميه بإسم والدك ووافقتك.. كنت تتمنى أن تكلم والدتك لكنك كلما تذكرت خوفهم عليك.. تذرف دموعك.. وتصرف نظر عن هذه الفكرة التي تزلزل كياني.. لا أعرف هل هي تضحية براحتك من أجل راحة أهلك.. أم هي من أجل راحتي أنا.. لست أعرف حتى الآن إن كنت ملكت قلبك أو لا..
دوما أسألك إن كنت تحبني أم لا.. كنت تعدني دائما بأنك لن تخونني مع أي امرأة أخرى.. كنت أعرف أنك مجرد زوج وفي.. وهذا يكفيني..
............................
شكت لي يسرا من جفاف بدر معها.. أخبرتني بأنه يتغيب كثيرا عن المنزل..
- يا سالي بدر ما صار يحاكيني.. إذا عاتبته يبكي ويقول ارحميني.. يتهرب مني.. شكلي رح أرجع السعودية الوضع لا يطاق..
- هدي بالك.. لا تتسرعين.. بعدين إنتي شكيتي بس هالأسبوع.. إعذريه.. أكيد يمر بظروف.. ورح يرجع أحسن من أول ..
- أي أسبوع بدر من 3 شهور متغير..
قلت بنفسي:" قصدك من الوقت اللي شافني فيه.."
- اش رايك نتمشى شوي بالحي!!
- ايه.. بس بأروح البيت.. آخذ البالطو وبأجي نطلع سوا.. دقايق وانا عندك..
- أستناك يا يسرا..
ذهبت إلى غرفتي.. لأغير ملابسي.. خفت ومن وجود بدر على سريري.. ارتبكت وقلت: هلا بدر..
تلفتت وقلت لك: يسرا كانت عندي.. اطلع ما أبيها تدري إنك هنا..
- سالي انا مو قادر ارجع البيت.. أبغى أعيش هنا معك..
- إنت مجنون.. أرجوك بدر.. ..
- مستحيل أضرك.. بس قاعد أقولك اللي أتمناه..
- بدر.. يسرا وصلت الجرس يرن..
- رح أنفصل عن يسرا.. عشان أقابلك براحة..
- بدر.. أرجوك..
- أحبك يا سالي.. ارحميني..
سمعت أليزا تفتح الباب وتقول لنا بعد أن رأتنا معا.. "يسرا قادمة.."
سمعت خطواتها تقترب من الغرفة.. أرغمته على الوقوف.. ودفعته جهة النافذة إلا أن يسرا دخلت الغرفة.. بينما دفعت به خلف الباب وأجلسته على الأرض ورميت فوقك مجموعة ملابس.. تقدمت خطوتين للأمام.. بينما تعثرت قدمي واتكأت بيدي على الباب وبقدمي على ساقك.. لم تنتبه لك.. وقالت :جاهزة.. قلت: أجل .. اسبقيني و بالحقك.
..............................................................
سأنهي الشهر السابع.. جنيني يكبر يوما بعد يوم.. كنت مسترخية على الكنبة.. أرتدي ثوبا قصيرا.. ويدي مكشوفتان.. تأملني بدر وأنا أمسك بهاتفي.. قلت : ما رديت على اتصالي..
قلتها وانا أتغنج.. تلمس بطني وهو يقول: حبيبتي..
قلتها وأنت تستعطفني.. قلت لك بمشاعر صادقة: تعودت وجدك بحياتي يا بدر..
- معقول انتي تقولين هذا الكلام..
تنهدت بحسرة.. ثم قلت لك: انا مقصرة مع معاذ.. صار لي أسبوعين ما شفته.. آخ بس.. تعبت.. شفت لوحتي هناك؟؟ ما كملتها لين ألحين..
- تسمحي لي أكملها!!..
- طبعا ..
اكتشفت أن بدر رسام مثلي.. فعلا فاجأني هذا الموضوع.. كان يرسم متأملا لي.. كنت أراقبه.. كان يرسمني.. تأملت طوله المفعم بالقوة.. ولونه الأبيض الرجولي.. عينيه المتدفقة بالحنان.. وقفت بالقوة.. وسارعت خطواتي.. وقفت خلفه وهو توقف أيضا.. ونظر تجاهي مستغربا.. أدخلت يدي بين خصلات شعره وقلبي يخفق بقوة.. ترك اللوحة والفراشة.. عانقني بهدوء.. كانت إليزا تصفق وهي تردد: برافوا يا بدر.. برافوا.. جعلت الفتاة تتخلى عن معتقداتها.. لم أعي ما كانت تقوله.. ولا حتى لصوت الهاتف الذي يهز المكان.. كنت أقتحمه.. احتويه.. ولم أعي إلا صوت إليزا الصارخ وهي تمسك بهاتفي: زوجك يحتضر.. زوجك يموت يا سالي..
..........................................................................
تأوهت .. عيناي تبحث عن معاذ.. وجدت يسرا بجواري.. فتحت عيني.. شعرت بالألم يعتصرني.. تلمست موضع الألم.. ماذا حصل.. أين طفلي!! تلمست بطني مرة أخرى.. تقدمت يسرا بطفل وقالت: طفلك..
- قصدك اليتيم ..
ذرفت دموع ساخنة كالحمم.. ثم قلت: ما أذكر اش صار؟؟
- لما سمعت بخبر وفاة معاذ.. ما تحملتي الصدمة.. ..
- بعدين ولدت.. آخ..
كنت أعلم أنني أسير في طريق نازف.. كما تنبأت لنفسي.. سألت : معاذ مات؟؟ سكتت يسرا فبكيت.. وانهرت ..
- أبغى اشوفه!!
- انتي تعبانه ما تقدرين!!
- تكفين.. يا يسرا.. وديني له
كنت أبكي بطريقة مؤلمة.. أحضرت يسرا الطبيب.. فوافق بشرط أن أكون متسلقية على سريري وأن أنتقل إليه دون ان أتحرك.. كنت متمددة على سريري.. رفعت رأسي تجاهك..رأيتك يا معاذ.. كنت نائما كطفل بريء..مسحت على وجهك بيدي.. دعوت لك بالرحمة.. هنأتك بالشهادة التي
استجبت لهتافها بمنامك.. وأخبرتك أن أسمي ابننا بوالدك كما وعدتك ..
................................................................................
أغلق بدر باب غرفتي بالمستشفى.. نظر إلى وجهي الشاحب.. وشفتاي المبيضة.. كتفي العاريين.. جلس بمؤخرة السرير.. عند قدمي.. أحسست ببرودة أصابعه بين أصابعي.. تأمليني.. تفحصني.. تبسم لي.. ثم قال:
- كيف حال الحلوة اليوم؟؟
ابتسمت له بصعوبة.. أجبت:
- اش قال الدكتور!! ..
- ولدك بيضل بالحضانة.. وانتي بتطلعين اليوم !! بس انتي نفسيتك تعبانه.. لازم تنتبهين لنفسك ولا رح تتدهورين.. فاهمتني!!.
- ايوه.. فاهمة.. اش بقى ما فهمته..
- طيب يله.. عشان تلبسين اللبس اللي جبته لك..
...................
حملني بدر بين يديه.. وأدخلني السيارة.. كان مضطرب نوعا ما.. أصبحت أعرف انه مضطرب من مجرد النظر إلى وجهه.. قلت:
- تكلم يا بدر.. قول إش عندك!!
- بصراحة .. كنت أبغى أقول لك .. إن السفارة.. أصدرت أمر بالتوقف عن صرف الاعانة الدراسية لك..
- لأن صاحب الاعانه مات.. .. صح..
- سالي.. رح ترجعك السفارة للسعودية..
- المحكمة اش رح تسوي لقضية معاذ..
- بيعطونك تعويض.. لو ثبت ان له حق..
- ما رح ارجع السعودية يا بدر.. ما أبغى أعيش هناك..
- كيف بتعيشين هنا ؟؟
- رح أتصرف.. اليوم رح أكتب لك تفويض يعطيك صلاحية بعمل معرض .. لبيع لوحاتي.. بتجيب مبلغ كويس.. وحوله على رقم حسابي..
- كلامك أوامر.. بس مارح تقدرين تعيشين من غير رجال.. لازم حد يحميك..
قال هذه الكلمة.. ونحن نتوقف بمحاداة المنزل.. مددت يدي إليه ليحملني.. أدخلني المنزل وهو يقول:
- أخاف عليك..لا يمكن أخليك تعيشين لوحدك.. رح أنفصل عن يسرا.. وأخليها ترجع السعودية.. وبأقعد معك هنا.. أحميك وأطمن عليك..
- بدر مستحيل يصير الشي هذا..
أجلسني على السرير.. تمددت .. وغطاني جيدا.. وقال :
- إنتي تحبيني وما تقدرين تنكرين؟؟
- انت اللي تحبني..
- أحبك وأموت فيك.. هدمت حياتي علشانك.. ما أقدر أتخيل حياتي من غيرك.. اش معترضة عليه يا سالي.. أنا أحبك..
- مستحيل أدمر حياة يسرا بنفسي..
- إش عليك منها؟؟.. أنا اللي ما أبيها.. اش ذنبي أعيش معها وأنا ما أحبها..
- كنت تحبها.. لين التقيتني.. يا بدر انا ما أرضى انها تختطف معاذ - لو كان حي - مني..
- انتي تبغين تدمريني.. تبغيني اموت.. انا من غيرك اموت.. ارحميني..
- طيب.. تضمن لي يا بدر.. انك اذا شفت وحده ثانية بعد ما اتزوجك.. ما تحبها وتتزوجها..
- قصدك تقولين إنني زير نساء!!..
......................................................
لم أستطع التحرك لمدة يومين.. وبدر منقطع عني.. غاضب بعد ان جرحته بكلامي آخر مرة التقيته.. والسيدة إليزا.. منقطعة عن المنزل هي الأخرى ولا أعلم أين ذهبت.. لم أعرف حتى كم من الوقت مضى وأنا على سريري.. كنت أتألم .. أموت.. يرن هاتفي ولا أقوى حتى على الرد.. شعرت أنني سأفارق الحياة.. تقلبت حتى وقعت.. شعرت أن أظلاعي تكسرت.. زحفت على بطني.. أخذت هاتفي.. اتصلت على بدر.. تكلمت بصوت مبحوح.. : بدر.. محتاجتك.. رح أموت...
..................................................................................
السيارة تتحرك بقوة.. رأسي في حضن بدر .. سمعته يقول:
- ما كان المفروض أطاوعك وأطلع.. الغلطة غلطتي.. كنتي بتموتين وأنا ما أعرف.. واليزا الزفت هذي مدري وين راحت..
- آسفه يا بدر.. آسفه.. كل ما قلت بأريحك.. أعذبك أكثر..
- أي تعب.. انتي تعرفين انني مستعد أموت عشان انتي تعيشين..
ذرفت دموع ساخنة بينما كان يمسحها ويقول بسعادة:
- يعني كلامك آخر مرة معي كان بدافع خوفك علي.. مو لأنك تكرهيني..؟؟
- بدر.. تعبت يا بدر.. تعبت.. وأبغى أرتاح..
- نرجع السعودية ونتزوج.. وأوعدك ما أخليك تقعدين بالسعودية.. رح أسفرك كل مكان تتمنينه.. بألف بك العالم..
- ما يصير اكون مثقلة عليك كل هالمدة.. اش صار ع اللوحات؟؟..
- لوحاتك يا حياتي جابت لك مبلغ هايل.. اللوحة الوحده انباعت بـ35ألف
- دولار.. بتتاجرين من وراء هالمعرض..
- معقول.. الحمد لله.. تصدق يا بدر.. سمعت عن أسعار اللوحات المرتفعة بالخارج.. بس ما توقعت إن الموضوع كذا.. أنا انتقلت من طبقة لطبقة.. تذكرت أيام المعرض بأصداف مول بخميس مشيط.. عرضت اللوحة للبيع بـ200 ريال ولا انباعت.. وعرضت على جمعية الثقافة والفنون بأن تقتنيها وتعرضها للسياح.. ورفضت لأن إسمي مو معروف.. ولما شاركت بها أيام الجامعة.. في مسابقة الرسم.. الجائزة كانت بـ20 ألف ريال.. تصدق يا بدر.. ذلوني على الجائزة.. ترم وأنا أراجع من مبنى لمبنى.. وبالأخير جتني رسالة وأنا في قاعة الاختبار.. من المشرفة.. تقول العمادة يبونك ضروري.. ما عرفت أختبر هذاك اليوم.. كانوا مترصدين برا.. طلعت والمشرفات شبه بيكلبشوني.. وفي العمادة.. أعطوني ورقة بيضاء أوقع عليها.. فكرت إنها عشان يثبتون إني استلمت الجائزة.. ولما سألت ردت سكرتيرة العميدة.. لك عين تسألين وانتي متأخرة كل ذا المدة.. هذي ورقة تنازل عن اللوحة للوزارة.. وهذي هديتك.. كانت علبة مدري اش فيها.. وما خلتني المسها لحد ما وقعت على استلامها.. فتحت العلبة.. تدري اش لقيت يا بدر.. لقيت إكسسوار بريالين.. والله اكسسوار بريالين..
- ارتاحي يا سالي.. انتي تعبانه..
- أ/ الحمدان ما يدري عن شي.. داخل الجامعة ما يدري الحريم اش يسون.. الجامعة ترسل أوامر.. وماحد ينفذ.. العميدة ترسل أوامر والأقسام ما ينفذون.. المشرفات حولوا الجامعة إلى كلية عسكرية.. يأمرون وينهون.. اللي شكلها حلو ما يصير لها شي.. المشرفة السمراء تستقصد البيض.. القوية ما حد يكلمها والضعيفة القوانين كلها تتطبق عليها.. اذا طالبنا بحقوقنا قالوا اشتكوا هناك عند الرجال ما بيدينا شي.. واذا اشتكينا جمدوا الشكوى عندهم في العمادة.. ولا حد يدري عنا الا اذا وحده باسم الدفعة ترسل احد من قرايبها يشتكي عند الرجال .. يا بدر.. كنت في كل مرة تصير مشكله أغني يا ليل ما أطولك..
................................................................................
وصلت رسالة على ايميل معاذ.. من أخيه محمد.. كتب خطابا مثيرا للدموع عن حال العائلة وقلقهم عليه.. وانه سوف يأتي ليساعده اذا كان هناك مشكلة.. أثارت قلقي هذه الرسالة.. توقعت حضوره في أي وقت.. حزمت حقائبي.. كان طفلي معي .. وقد مضى على خروجه من الحضانة أكثر من أسبوع .. وقبل أن أنتقل.. أخذت ورقة من أوراق معاذ المختمة بختم السفارة.. وكتبت فيها.. "إشعار من سفارة المملكة العربية السعودية بكندا..
نود إعلامكم بوفاة إبنكم معاذ وزوجته في حادثة بشعة .. وقد تفحمت الجثتان.. وقامت الأماكن المختصة بدفنهما في مقابر المسلمين.. ودفع كافة الرسوم.. نرجو من الله أن يتوفى فقيدكم برحمته وأن يسكنه فسيح جناته.. "
قلت بنفسي لما أرسلتها عن طريق البريد.. " يا ترى بيصدقون ولا لا.." أرسلتها وكلي احتقار لنفسي على ما أفعله.. لكن.. هي حياتي وحدي.. وسأعيشها وحدي .. وسأحاسب عنها وحدي.. ومن الجدير.. أن أبقى في المكان الذي يسعدني.. لا في المكان الذي يسعد غيري..
رن هاتفي حتى كاد أن ينفجر.. كانت أمي المتصلة.. وكأن حساسات قلبها أنذرتها بفراقي الأبدي.. كنت أقرأ رسائل نادين على جوالي.. مرة تخبرني عن قلق أمي.. ومرة تطلب أن أشتري لها هدية عندما أعود.. كنت أقرأ رسائلها على بريدي الاكتروني أيضا.. و لا أجيب.. كنت أنتظر إنقطاعها عن المراسلة.. لأن ذلك سيكون بالنسبة لي علامة بعلمهم بوفاتي.. بالفعل انقطعت نادين عن الارسال.. وانقطع اهل معاذ عن الارسال أيضا..
............................................................................
كان طفلي يحبو أمامي.. يتمسك برجلي.. ويسرا تبتسم بحزن.. كانت تمسك عباءتها التي لم تلبسها منذ وصولها إلى كندا.. تأملت عباءتها وأنا أقول.. :
- جيت كندا بدين صادق.. ما كنت أعرف إن الظروف رح تخليني كذا.. مع إن فيه محجبات كثير هنا.. ويترددون ع المسجد الاسلامي.. كنت أقدر أكون مثلهم بس نفسي ضعيفة..
تكلمت ويسرا تتأمل منزلي الفخم.. ثم قالت:
- ربي عوض تعبتس يا سالي مع معاذ وبعد وفاته.. المهم.. أنا راجعه السعودية وجيت أودعتس..
- !! ليش؟؟ بدر عنده إجازة!!
ذرفت دموعها وملأت وجهها.. وقالت:
- رح أرجع لوحدي.. حياتي انتهت يا سالي..
أكملت وعبرتها تخنقها.. : بدر يخونني.. سمعته يكلمها..
- يمكن انتي مهملته.. ترى الرجال يحتاجون أجواء رومانسيه كل ثانيه..
- لا يا سالي.. كل مرة أواجهه يبكي.. يقول لي سامحيني .. أنا خلاص فهمت.. هو يحب غيري.. ومو قادر يعيش معي.. وما يقدر يطلقني لأنني ما أذيته بشي.. هو محتار وموعارف اش يسوي.. بس لأنني أحبه رح أطلب الطلاق.. عشان يعيش حياته وما يحس بالذنب جهتي..
أجهشت يسرا بالبكاء.. تأثرت من منظر دموعها المتساقطة .. حزنت عليها.. تذكرت ألمي من معاذ لما تزوج زينب.. سألتها إن كانت ستسامحه
لو اعتذر منها فأجابت بالقبول.. مما جعلني أفكر في إرغام بدر بالسفر من كندا..
.................................................................................
قبلت إليزا على رأسي لما صحوت من النوم.. جلست على حافة السرير.. تحمل ابني.. بيديها.. وتقول:
- أشعر أنك مثل ابنتي تماما.. لا أعرف ماذا سأفعل لو فكرتي بالرجوع إلى السعودية.. إعتدت على بقاءك.. وعلى رؤية حفيدي..
- أنا أحبك أيضا..
- سالي.. أجيبيني بصراحة.. إذا اعتنقت الاسلام.. سأدخل الجنة؟؟..
- أجل.. هل تنوين ذلك؟؟
- بصراحه.. أفكر في هذا الموضوع.. أنتي دائما تلجأين في كل محنة تصيبك إلى ذلك الذي في السماء.. عندما تصلين.. أشعر أنك فعلا تتخاطبين مع أحد؟.. لا تسمعينني.. أتتذكرين تلك المرة التي طلبت منك أن تقومين بالدعاء على باللغة الانجليزية.. تلك المرة شعرت أن روحي أصبحت طاهرة ونقية.. أحببت الإسلام معك.. لكن المسلمون لا ينشرونه.. بينما نحن النصارى ندفع الأموال الطائلة للمبشرين..
.........................
دخل بدر.. وأنا فوق السلم أقوم بإصلاح إحدى الأنوار.. هز السلم برفق فانتبهت لوجوده بالأسفل.. وبيده ورده .. أكملت إصلاحي للنور وأنا ألقي التحية.. لكن الوضع لم يرق له.. هز السلم مرة أخرى.. نزلت من أعلى ولما قاربت النزول.. هز بدر السلم بقوة ففقدت السيطرة على نفسي ووقعت وأنا أشهق بهدوء.. أمسكني بيديه القويتين.. أوقفني على الأرض برفق.. ألتصق بي مقدما وردته..
شممتها .. بل إستنشقتها.. شعرت أن رائحتها انغرست بقلبي.. كالورد الطائفي في لونه ورائحته.. ابتسمت أقول:
- كيف دخلت إلى البيت!!
- انا من ساعه عند بابكم.. قعدت استنى عجوز قريح طلعت من البيت.. تمشي ولدك.. طفشتني هالـ إليزا.. كل ما شافتني قالت حرام.. صارت مفتي الأخت..
ضحكت كثيرا منك :وهي صادقة..
أخذ الوردة من يدي ومثل ضربي بها.. بينما جعلتها تلامس وجهي برفق.. ثم قال لي بعينين مليئة بالدفء: يا ليتك تستنشقيني مثل ما تستنشقين هالوردة..
أمسك معصمي بقوة وقربني منه.. يقول:
- سوري اتصلتي وما رديت عليك.. اش بغيتي يا عمري.. تكفين قولي انك اشتقتي لي..
- بجد اشتقت لك يا بدر.. بس هذا مو موضوعي..
- أجل..
- إنت داري إن يسرا سافرت السعودية.. بسبب معاملتك السيئة لها..
- يا ذا اليسرا.. طفشت من هالسالفة يا سالي.. يسرا انتهت من حياتي.. أنا أبيك انتي.. افهميني لو مرة وحده.. كل ما أقابلك تقولين لي نفس السالفة..
- يا بدر أنا ما أفكر في الزواج منك أبدا..
- ليش .. انتي معترضه على شخصي أنا..
- لا والله يا بدر.. بس وين نتزوج.. وكيف.. أهلك بيقبلون فكرة طلاقك عشلن يقبلون فكرة زواجك من وحده بالغربة.. ما يعرفون من بنته.. طيب حتى لو قلت بتخطبني من أهلي.. اش أقول لهم.. حييت بعد ما كنت ميته.. وعبال ما يستوعبون فكرة روجوعي.. مستحيل يزوجوني لك .. لأنك مو من قبيلتي.. يمكن كانت بتهون لو جنوبي.. بس إنت قصيمي..
- يعني ايش يا سالي..؟؟
- المشكلة ما عادت مشكلة يسرا.. أنا أحبك يا بدر.. بس مقدر اتزوجك.. مقدر أغامر بنفسي..
ذرفت دمعة نزفت من قلبي قبل ان تسيل من عينه.. اهتزت كتفي.. جلس عند قدمي.. يقول بصوت كله رجاء: اسمحي لي أعيش معك ع الأقل..
...................................................................
كنت أقف بالمقبرة.. أرى قبر معاذ.. وأنا أحمل طفلي.. كنت أناجي نفسي عما كنت أناجي نفسي عما إذا كنت أعمل الصواب أو لا.. كنت في حيرة من أمري.. بدأت أنبض عشقا لبدر.. أشعر أنني أناقض نفسي.. كان لابد أن أضع حلا للموضوع.. اتصلت على هاتف بدر.. رد بكل لهفة.. مع أن صوته متعب: آلو.. هلا سالي
- صباح الخير حياتي..
- تسمعيني كلام قاسي وبالآخر أنا حياتك..
- هذي مشكلتك..
قلتها وأنا أضحك.. فرد علي يستهزئ: لا والله..
- مشكلتك أنك تحب وحده تهاوشك كل ما تشوفك.. بس ما تقدر على فرقاك..
- أنا لين ألحين مو مصدق إنك انتي سالي.. أقول اختي الظاهر انتي غلطانه بالرقم..
- بدر.. ..
- يا عيون بدر.. اكتشفت انك من الناس اللي يعبرون عن مشاعرهم بالتلفون..
- ايه.. بصراحة دائم اتكلم يالتلفون براحه أكثر من المواجهه
- ع بالك اجهلك.. ملامحك تحكي كل شي تخبينه..
ارتبكت فعلا.. شعرت بذلك بينما لاحظ هو صوتي قائلا: كشفتك..
قلت له بجدية نوعا ما: تعالني البيت..
رفع صوته: لا طبعا..
استغربت: ليه؟؟
- حالف ما ادخل بيتك الا وانا زوجك..
- ايش؟؟ ما سمعت..
- اذا مو عاجبك تعاليني انتي..
- اقول.. لا يكثر هرجك.. تعال البيت.. وبسرعه..
- ترى انتي ما تعرفيني.. اذا جيت رح اخطفك.. واتزوجك غصب عنك..
- نعم ؟؟ انا فعلا الظاهر غلطانه.. هذا مو جوال بدر.. باي
- لحظة.. لحظة.. انتظري ..
- اش تبغى؟؟
- بغيت أذكرك اني ساكن مقابل شقتك.. يعني اذا ما تعرفين الطريق..
- تحلم أجيك.. باي
- لحظة.. سالي لا تسكرين..
- خير..
- أحبك..
شعرت بأن كلمته دخلت لإعماقي.. وتردد صداها.. حتى لم أعد أعي المكالمة.. ظهر صوته من جديد: وين رحتي؟؟
- معك.. يله باي حبيبي..
- الله معك.. أستناك..
.................................
لأول مرة أقف أمام شقة بدر.. سنة من الألم والمعاناة.. وسنة من العشق.. وهانحن نبدأ السنة الثالثة.. وأنا حتى الآن لم أصل لحل في مشكلتي معه.. ظلمته كثيرا.. لم أحقق ما يريد.. لم أبادله و لا حتى الإهتمام.. منذ أن مات معاذ.. لأول مرة أردتي فستان حريري قصير مناسب لفصل الصيف الرائع في كندا.. أسدلت شعري الحريري أيضا.. وضعت الكحل الصيني مع أطراف عيني.. وتقدمت إلى شقته..
أتيت مع طفلي الذي يمسك بيدي .. وجدت الباب مفتوحا.. دخلت .. شدتني اللوحات المرسومة بشكلي.. مرة وأنا نائمة.. مرة مبتسمة.. مرة على خيل,, والكثير من اللوحات..
سمعت دندنته تملأ المكان.. يبدو أنه يحلق ذقنه.. أصدر طفلي ضجيجا كسر حاجز الصمت.. فخرج بدر مهندما بشكل رائع.. قال بسعادة: من؟؟ سالي..
تأملني.. كان غير مصدق.. سنة كاملة هو من يهتم في مظهره من أجلي وفي كل مرة لا اعيره إهتماما.. أو أتسبب في بكاءه.. وأجعله يخرج من منزلي غاضبا..
سنة كاملة وهو يحلم بهذا الإهتمام.. يتمنى ان يراني أركض إليه كما يفعل.. سنة كاملة يقضيها هنا بعد أن أنهى دراسته وصار من المفترض أن يعود إلى الوطن.. لكنه يفضل البقاء معي..
وجدته يلتصق بي.. يطوقني بذراعية.. يضغط على كتفي بقوة.. هاجمني بقبلات محمومة بأماكن متفرقة.. قال بصوت أعياه الحب: أنتي جاحدة!!
- فعلا.. انا جاحدة..
قلتها وأنا متألمة.. قلتها لأنني أعلم بما يكنه لي من حب.. لكن لا أستطيع التضحية من اجله كما يضحي من أجلي.. أكمل يقول: " لا يروح فكرك بعيد.. أنتي جاحده لأنك تدرين إنني أحبك وتخبين عني الجمال هذا كله.. "
ظهر صوت ابني: ماما.. تركني من بين يديه يقول:"جبتي البطل هذا معك"
حمل ابني يقول:" عندي لك ألعاب كثيرة تعال معي".. اختفى عن بصري ثم عاد سريعا وحملني على يديه ثم أجلسني على الكنبة.. وجلس على الأرض متكأ بساعديه على فخذي وهو يقول:" جايبة الولد عشان ما تهنيني فيك..
قلت أضحك: حبيبي اكتشفت إنك خفيف دم..
ابتسم: ايه أنا خفيف دم .. بس ظروف مرض معاذ وفاته وولادتك ومشاكل يسرا خلتني أطلع بشخصية غير شخصيتي..
فجأة رفع بصره يقول: قولي لي أحبك..
نظرت إليه فنظر للأسفل يضغط على كفي بقوة.. شعرت بدقات قلبه الملتصق بساقي تكاد تقطع قميصه.. شددت شعره برفق.. ثم قلت:
- أحبك.. يا بدر.. بس انت رافض تتفهم وضعي..
...................................................................................
كنت أتصفح إيميلي.. وبدر يجلس على كرسي بجواري.. دخلت على ملف الشخصي لأختي نادين.. قرأت:
(ما عمري آمنت بوجود الأرواح .. إلا روحك يا سلوى معي في كل مكان)
سالت دمعه حبيسة على خدي.. تفرجت على ألبومها.. قرأت ملاحظاتها.. كانت آخر ملاحظاتها.. مكتوب فيها:
( الموت يخطف منا من نحب بدون سابق إنذار..)
والكثير الكثير من العبارات.. والأشعار.. أتراها وفاتي أنطقتك شعرا يا نادين.. في هذه اللحظة أجهشت بالبكاء.. انحنيت ووضعت رأسي على الطاولة .. أحاط بدر خصري دون كلمة.. أظنه تعب معي.. حتى أصبح عاجزا عن الكلام.. ذهب إلى المطبخ بشقته.. عاد وبيده قهوه أعدها بنفسه.. أعطاني إيها صامتا.. احتسيت رشفتين.. دعوتني للخروج والمشي معا.. خرجنا من شقتك وأنا أتصل على اليزا لأطمئن على صحة طفلي.. سمعني أنا أكلمها وعرف انها هي فقال لما انتهيت: هذي ما تبي تموت؟؟
ضحكت مع انني للتو أبكي ثم قلت: حرام عليك.. المسكينة تخدمني ..
- انا نفسي اعرف اش مقعدها معك.. استاجر لك عندها معاذ الله يرحمه قبل سنه .. اش خلاها تترك بيتها وتسكن معك..
- ما قلت لك.. هي باعت بيتها.. وجت هنا تسكن معي وتخدمني كمان..
- عز الله اللي ما طبيت بيتك أبد..
...........................
جلسنا بالمطعم متقابلان.. ظللنا نسترق النظر لبعضنا البعض.. كنت أعرف ما ستتكلم عنه.. أصبحت خجلة منك أكثر من أي وقت مضى.. أتى النادل.. فطلبت لنا العصائر.. سألتني تقول: "أنا رجال ولا لا..
تبسمت ثم قلت: طبعا رجال يا بدر..
بدر بمكر: زين أنا مالي عينك..
- طيب كمل.. أسمعك..
- سالي انتي تثقين فيني..
- انت عارف جوابي من قبل لا تسأل..
- انتي عاجبك وضعنا مع بعض؟؟ ..
- لا والله مو عاجبني..
- اش اللي مو عاجبك بالضبط؟؟
- انني معذبتك معي.. انني مو قادرة أسعدك.. بالعربي.. انت تحب وحده ما تنفع تصير زوجتك..
- ليش انتي حاطه هالحواجز..
- أهلي ما رح يوافقون أتزوجك.. انت ليش رافض تفهم..
- وأنا أهلي مستحيل يوافقون أتزوج وحده بالغربة ما يعرفونها.. يعني أنا مثلي مثلك..
- اش تبغى توصل له يا بدر..؟؟
- يا سالي أنا وانتي اللي بنتزوج.. مو أهلنا..
- ذنبنا ان أهلنا شرقيين..
- اذا تبغين سعادتنا حطي يدك بيدي.. اذا ساعدتيني كل شي بينحل..
- مافي حل يا بدر.. لا تحاول..
- نتزوج.. ونعيش هنا كل العمر..
- ما رح تقدر تتحمل يا بدر.. انت جسمك هنا وروحك في السعودية..
- يعني انتي اللي بتتحملين تعيشين هنا كل العمر.؟؟
- يا بدر انا العيشة هناك تقتلني بس هنا انا بجنة.. ما رح تحس بها الشي الا لو كنت مكاني.. بعدين قول لي.. رح تقدر تسمع ان امك مريضة وما تروح السعودية.. رح يتوفى أبوك لا قدر الله وما تحضر جنازته عشاني.. لو صار شي بأخوانك.. وأهلك محتاجينك.. بتخليهم وتقعد هنا معي.. لو فلسوا مثلا وشحذوا بالشارع رح تتركهم عشاني.. فكر بعقل يا بدر..
- ليش تفترضين أمور سيئة..
- أبي أبين لك انك مالك غنى عن أهلك.. أصلا ما أرضى تسوي فيهم كذا.. عشاني.. جاوبني بصراحه.. لو حصلت هالظروف..بتترك الدنيا عشاني؟؟
- آآآه.. يا سالي..
- كانت بتهون لو أهلك بيقبلون.. لكن الكل بيقول.. رمت نفسها على ولدنا وما نعرف واش أصلها..
- أهلي رح يقبلون لو خطبتك من أهلك خطبة رسمية..
- هذا الحل الوحيد اللي يرضيني.. بس انت تعرف أهلي زين..
..................................................................................
كنت أستلقي بجانب طفلي المريض على السرير.. لما كان د/توماس يقوم بتشخيصه.. كان يداعب ابني وكأنه جليس أطفال.. شدني منظر د/توماس لما قام بطرد الممرضة لأنها لا تشتغل بحماس.. وقال زاجرا لها: أن لا تشتغل معه مرة أخرى.. وقال على سبيل الاستهزاء.. إذهبي إلى د/ داني أو أي أحد يتحمل كسلك.. بينما سرح بي الخيال إلى مستشفى محايل النازف.. تذكرت المسن الذي أعطته الممرضة إبرة طلق وتوفى بالحال.. وتذكرت المرأة التي ضربتها طبيبة الولادة بأسلاك المغذية لأنها تصرخ.. آلاف الضحايا بعسير النازف.. وهنا تطرد الممرضة لأنها كسولة..
ابتسمت خجلة لأن الطبيب توماس يكلمني لمدة وأنا مع عالم غير عالمه.. قال لي بعد أن لمعت عينيه الزرقاوين كأشعه ليزرية: "يبدو أنك حنونة كثيرا.. تنظرين إلى الممرضة بشفقة.."
ضحكت دون أن أعلق بكلمة.. فأضاف: "هؤلاء الممرضات لا يستحقون الرحمة.. أي غلطة تقوم بها قد تقضي على المريض.. والطبيب هو المسئول في النهاية .. "
تمتمت مع نفسي:" لا أحد مسئول في عسير النازف"
ضغط الدكتور تحت عيني يقول: يبدو أنك تفكرين كثيرا.. عينيك بها حزن..
ابتسمت: الدنيا مليئة بالمشاكل..
نظرإلى أصابعي ثم قال: أنتي غير متزوجة.. أليس كذلك!!
قلت بأسى: أنا أرملة..
كان د/توماس قد انتهى من التشخيص ولم يتبقى إلا أن أذهب لأشتري الدواء.. حملت ابني بينما ضل محدقا بي حتى خرجت..
..........................................
لبست فستاني الأسود.. وضعت أحمر الشفاه الصارخ.. رسمت الكحل الثقيل لأبدو كفتاة عربية.. تركت طفلي ينام.. واستغليت ذهاب إليزا لحضور جنازة إحدى صديقاتها.. اتصلت على بدر ليأتي فرفض.. حاولت معه وأخبرته أن إليزا غير موجوده لكن رفض إلا أن يقابلني على الكراسي في حديقة منزلي.. أتى بوجه عبوس.. عينيه مليئة بالأسى.. ظل واقفا امامي.. لم يعانقني ككل مرة.. ظننت أنني لم أعجبه.. قدمت العصير على الطاولة وقلت: أجلس.. اشرب عصيرك..
جلس على الكرسي وتنهد يقول: ما رح أشرب شي..ما لي نفس..
ابتسمت: بس أنا مسويته..
أخذ رشفه من العصير يقول: من حبيتك ما ذقت للأكل حلا.. ولا عرفت طعم النوم.. كل اللي أعرفه أن المهدئات ماليه البيت..
ـ يا حبيبي..
التفت تجاهي وتأملني وقال: انتي حلوه كثير يا سالي..بس حسافه بأرجع السعودية وما رح أشوف هالجمال مرة ثانية..
ـ بتسافر؟؟
ـ يمكن أقدر أنساك..
ـ تبغى تنساني.. .. ..
قاطعني يقول : وانتي حاولي تنسيني..
سكتت.. كنت متأكدة أن هذا اليوم سيأتي.. لكن مرت الأيام سريعا .. أسرع مما تخيلت.. لا أعرف لماذا انصدمت .. مع اني كنت سأقول له نفس الكلام.. ربما سماع الصدمة من شخص عزيز أقوى من قولها.. مسكين يا بدر.. كم آلمتك بكلامي.. قلت ودموعي تقطر دون سيطرة مني:
ـ صدقني بأكون فرحانه لك.. ارجع ليسرا.. واسكن مع أهلك.. ورح تصير أمورك تمام..
ـ معقولة حبيبتي تقول لي سافر.. وارجع لحرمة غيري..؟؟ كل الحريم يفكرون بعواطفهم إلا انتي.. تصدقين.. انتي تفكرين بعقل أحسن مني..
ـ الله يخليك ..كفاية ..
سالت دموعي.. امتلأ وجهي بسواد الكحل.. لم أعد أرى أي شي.. كان بدر يمسك بمنديل.. ويمسح دموعي.. ويقول بخفة دمه المعتادة: طلعتي بنت ايمو وأنا مدري..
...................................................................................
رحلة العذاب.. أجل رحلتي عذاب كما أسميتها.. رفضت أن أودعك يا بدر .. وأرسلت لك رسالة بأن تسافر دون أن تخبرني بموعد سفرك وأن لا تأتي لموادعتي.. أرسلتها وأنا أنزف ألما.. ليلة أخبرتني.. من أسوأ ليالي عمري.. جعلتني أكره يوم الأحد .. بكيت حتى الصباح.. فتحت نافذة غرفتي.. رأيت نافذة غرفتك مغلقة.. كنت أخمن إن كنت سافرت.. أو لا..لفت انتباهي تلك اللافتة معلقة بالباب: للإيجار..
تذكرت رسالته التي كتب فيها: "أريد أن تكوني آخر وجه أراه قبل ركوب الطائرة.. " رن جرس المنزل.. ركضت سريعا واصطدمت بإليزا.. التي منعتني من فتح الباب.. وسألتني عن الخطوط الزرقاء والحمراء بصدري.. نبهتني لها.. لم أكترث فالجرس يرن أكثر وأكثر.. فتحت الباب.. بعد أن كاد قلبي يقفز.. لكن الصدمة.. أن الدكتور توماس.. هو من يطرق الباب..
...............................................
لم أقتنع بأن توماس أتى إلى منزلي بالخطأ.. رأيت في عينيه الكذب.. لكن إليزا تقول أن الأخطاء تحصل دائما.. وأن الرجل الغربي لا يجيد الحيل.. فلو كان يقصد رؤيتي لقالها مباشرة وبشكل صريح كعادة الرجال الغربيين.. لم أكترث.. لكن بدأت أشعر بالخوف.. فمن بعد حادثة معاذ أصبحت لدي فوبيا من الكنديين.. خصوصا أن بدر لم يعد المسئول عن حمايتي..
سرعان ما نسيت الموضوع.. وعادت ذاكرتي إلى من تحب.. هطلت دموعي بغزارة.. أكثر من ليلة البارحة..لدرجة أنني أصبحت عدوانية.. تهدئني إليزا.. فأصرخ وأصرخ.. في كل مرة أحاول النسيان تتجدد ذاكرتي.. لأتذكر كل كلمة وكل موقف جمعنا.. أتذكر عندما تضمني إليزا إلى صدرها.. كنت أتأوه وكأنها تضغط على موضع الألم.. لم أستطع التحمل.. ولم أعد أعي ما يحصل..أتذكر أشياء بسيطة حينها.. بكاء إليزا.. وإختفاءها.. وتركي وحيدة.. لم أعد أرى من كثرة الدموع.. حتى صوتي لم
يعد مسموعا..لكن حاسة اللمس.. مازالت موجودة.. فقد عرفت دفئ يديك يا بدر مجرد أن ضغطت على يدي..
تبلل قميصك بدموعي يا بدر.. كنت أرفع رأسي بين الحين والأخرى لأتأكد أنك أنت.. قلت بصوتي المبحوح: لا تروح.. لا تخليني لوحدي..
ـ ما رح أخليك.. بس اهدي..
....................................................................................
كالطفلة التي ترفض أن تنام إلا مع لعبتها.. كنت لعبتي ومهد طفولتي يا بدر.. رفضت أن أنام ولا أن آخذ المهدئ الذي وصفه الطبيب لي.. إلا وأنت معي.. بقيت معي طول الليل.. تظن أنني نمت.. بينما أصارع النوم خوفا من أن ترحل بعيدا عني..
أشرقت الشمس وأنا مستيقظة.. بينما أنت تغفو على السرير يا بدر..راقبتك.. كنت أغفو وسرعان ما أستيقظ لأتأكد انك موجود.. حساسات قلبي تنبأ برحيلك مع أنك وعدتني بأن تبقى..
ولما حانت الساعة الثانية عشر.. استيقظت.. ونظرت إلى الساعة..تمددت.. ثم نهضت إلى الحمام.. وعدت تمسح وجهك بمنشفتي.. نظرت إلى.. وأنا أفتح عيني بصعوبة.. أتيت إلي با بدر وضغطت بأصابعك على صدري وسألتني: وش الألوان اللي بصدرك..
ـ مدري.. طلعت لي من يومين..
ـ انتبهت لها.. بس أحسها متهيجة اليوم..
ـ د/ توماس يقول إنها بسبب ضغوطات عصبية ..
ـ من د/توماس..؟؟ اللي قلتي إنه عالج عبودي ولدك..
ـ ايوه..
ـ متى شافها؟؟
ـ أمس..
كنت أرى عينيك ترسل شرار.. شعرت بغيرتك تتفجر منك.. كدت تكسر أظلاع صدري بأصابعك.. أسعفني دخول إليزا.. عندما أتت لتطمئن علي.. دخلت تكفكف دموعها.. وجلست عند قدميك يا بدر.. ترجوك أن لا تفارقني لأنني سأموت.. نظرت إلي تبتسم.. قفزت على السرير وأنت تقول:
ـ كل هذا بسببي..
خجلت ونظرت للأسفل.. فقلت لي ترفع ذقني بيدك: أموت ع الخجول..
أكملت إليزا تقول: لن أمنعك مرة أخرى من القدوم.. سأذهب.. إذا لم تكن ترغب بوجودي.. لكن .. لا أريد أن تتعرض سالي للخطر مرة أخرى..
رفعت إحدى حاجبيك منتصرا ثم قلت لي هامسا: لو أدري ..كان كفرت فيك من زمان.. بس عشان أنحش هالعجوز..
قلت وانت تضحك: بأعيش دور ممثل أمريكي..
قلتها وأنا لا أعرف ماذا تعني.. قفزت وأمسك برقبتي.. ووضعت سبابتك على رأسي وقلت لـإليزا: I will kill her>> If u don’t go out of the house>>
............................................................................
لست أنسى لما جلست بحضنك يا بدر.. على العشب الندي بالحديقة.. وابني يلعب مع إليزا.. حزنت كثيرا على أمي.. كانت تتمنى أن ترى ابني.. بينما ابني يدعو إليزا بـ" grema".. أصبحت جدة عبودي.. السيدة إليزا..
سألتني ذلك اليوم.. لما إليزا تغطي شعرها.. فعلا شيء يدعو للإستغراب.. أخبرتك أنها اعتنقت الإسلام.. ظللت صافنا.. حركتك.. هززتك.. كنت مسلط بصرك علي.. دون أن تعي شيء مما أفعله.. دعوتها.. فأتت.. سألتها:
ـ لما اعتنقتي الإسلام يا إليزا..؟؟
ابتسمت تقول: أريد دخول الجنة..
سألتها: ما السبب؟؟
ـ أنت يا بدر.. وسالي.. لديكم عادات رائعة.. حب الوطن.. احترام الوالدين.. الصدق.. غيرة.. وفاء.. .. وأشياء كثيرة أسألكم عنها.. وإجابتكم واحدة.. دائما تقولون ديننا يأمرنا بها.. دينكم دين الإنسانية.. عمري الذي مضى لا أعتبره عمرا.. عمري بدأ منذ أسلمت..
نظرت إلي .. كنت متعجبا.. قلت لي متأثرا:
ـ سالي.. احنا معاصينا كثير.. أثرنا فيها واحنا ما ندري..
ـ كانت تسألني ع طول.. أكثر شي لما أكون مهمومة وأصلي.. دائما تسأل.. تقول لي تكلمين مين.. يسمعك..
ـ ياه.. يا سالي..
ـ قول الحمد لله..
.........................................................................
إتفقنا على أن لا نفترق.. أن لا يبعدنا إلا الموت.. كنا نتفق بسعادة.. كنت سعيد.. أما أنا فأنزف من الداخل.. لأن قلبي نازف.. تذكرت لما وعدني معاذ أن لا يتزوج غيري.. وأن لا يخونني.. ووفى بوعده.. فمات.. أظنه لو عاش لما تحمل النفاق في علاقة باردة مبنية على المجاملة.. لربما عاش وعاد ليتزوج زينب.. ولنزفت.. لكنني أفضل أن أنزف عليك لا منك..
والآن أنت يعطيني نفس الوعد.. وأنا أخاف عليك من الموت يا بدر.. أخاف عليك من نفسي.. أخاف عليك من حبي.. أخاف عليك من كل شي.. كل شيء..
اتفقنا أن نعود إلى السعودية .. وأن تخطبني من أهلي.. وأن أخبرهم أنني أريدك ولن أن أتزوج غيرك.. إتفقنا على أن أتحداهم.. قلت لي وأنت تقبل جبيني: وأخيرا..
تنهدت وأنا أقول لك: قدامنا صعوبات لازم نتعداها أول.. وبعدين نقول وأخيرا..
قلت لي وأنت تفك زرار قميصك: بس لازم أخلص موضوع يسرا..
ـ أنت لين ألحين ما طلقتها..؟؟
ـ طلقتها.. بس أمي اتصلت تهدد وتتوعد.. تقول لو ما تجي وتراضي بنت الناس لاني أمك ولا تعرفني.. الماما شرقية بقوة..
ـ واش بتسوي.. !!
ـ بأسمع كلامها طبعا..
ـ .. ..
ـ لا تطالعيني كذا.. هذي أمي.. أخاف يصير فيها شي إذا زعلت..
ـ وبعد ما تسمع كلامها..
ـ رح أرجع يسرا.. وأوهمهم إني مسحور.. ورح أطلقها.. وهم كذا بيقتنعون..
ـ أخاف يقولون أني أنا ساحرتك..
ـ حاسب حساب هالكلام.. ناوي أقولهم إن هم المرة الأولى خطبولي.. وهالمرة أنا اللي بأخطب بنفسي..
ـ حبيبي شاطر ما ينخاف عليه..
ـ اضحكي .. جعلها يا رب دوم هالضحكة..
..............................................................................
ليلة أنا ذاهبة معك إلى المطار.. كانت رحلتك الساعة 7 .. رفضت أخذي المطار.. خوفا علي من الخروج في المساء.. كنت أقف أمام منزلي.. وأنت يا بدر أمامي.. حقيبتك بيد.. ويدك الأخرى بيدي.. ثم على خصري.. شددتني إليك وأنت تحاول إقناعي.. ترقرقت دمعتين من عيني فرميت حقيبتك أرضا ومسحت دموعي بيديك القوية.. ثم قلت:
ـ يا كثر ما بكت هالعيون.. يله امشي معي..
عرضت عليك توصيلك بسيارتي.. فرفضت وقلت:
ـ أنا تسوق فيني بنت..
مع أنني أكره مقارنة البنت بالولد.. والتي دائما يتكلم فيها السعوديين.. إلا أنني لم أناقشك فيها.. لأنك ستسافر.. أخذت المفتاح من يدي.. ووضعت حقيبتك في السيارة.. ركبنا.. ونحن في الطريق.. كنت صامتة.. طرى على بالي أخي ابراهيم.. الذي تسبب في منعي من السفر.. تذكرت مرض الغيرة الذي يكاد يقتله.. تذكرت لما كان يأخذني من الجامعة.. كان يأمرني بالإختباء في المرتبة الخلفية كي لا يراه زملاءه.. ظننت حينها أنني عار عليه.. كان يلقي علي بأنواع الشتاءم إذا وقعت في الشارع.. حتى لما وقعت وانكسرت رجلي.. شتمني.. جرني بقوة حتى تضاعف الكسر.. أتذكر أن أبي لم ينطق بكلمة.. لكن يمهل ولا يهمل.. ألقاه الله بين يدي زوجة لا ترحمه.. وداست على أنفه.. كنت أضحك ملئ شدقي.. وأقول بقلبي: "ماذا سيكون موقفك لو رأيتني يا إبراهيم بين أحضان بدر.."
..............................
في المطار.. كم أكره الوداع.. لكنه كان هينا لأنك ستعود يا بدر.. ستعود وسأكون بانتظارك.. مشيت معك.. وقلبي يتدفق حزنا.. حقا.. هذه اللحظة قمة نزيف قلبي.. أنزف بلا حدود.. لكن لا جديد.. هو قدري.. أن أنزف حتى آخر لحظة..
آه يا لحظاتي النازفة.. عندما حانت اللحظة الحاسمة.. ضغطت على كتفي.. تقول: اتفقنا ما في دموع..ولا صراخ..
كنت ابتسم بصمت.. كنت أحبس دموعي ونزيفي بداخلي.. كي لا تسافر وأنت موجوع مني..
تخللت أصابعك بأصابعي.. ضغطت عليها تقول: بنلتقي.. ان شاء الله
قلت هامسة: ان شاء الله..
ملت نحوي يا بدر.. ملت ومال حنانك معك.. عانقتني.. كان رأسي يصل إلى بطنك.. كنت كـ إبنتك تماما.. وكعادتك.. تحملني في كل مرة.. وأنت تقول:
ـ أحب ريحة شعرك..
أجبتك : أعشق رائحة عطرك..
رفعتني عاليا ثم أنزلتني.. وقد جذبنا الأنظار علينا..ثم أخرجت عطرك.. وأعطيتني إياه.. فككت شالي الذي على رقبتي.. وربطته على يدك.. قبلتني على الوجنتين .. ثم تراجعت إلى الوراء.. وهتفت بيدك.. أرسلت لي القبلات.. ورحلت..
.....................................................................................
رحيلك مؤلم.. لكن ليس بالحد الذي توقعته.. باللحظة التي قدت فيها
السيارة لأعود.. كنت في قمة الخوف.. يجب أن أصل قبل أن يبدأ الليل حقا.. فلو حصل لي أي مكروه.. الشرطة الكندية لن تكون مسئولة عني..
أقود السيارة ضاحكة بعد أن علمني بدر.. علمتني كل شي يا بدر.. لو تعرف يا إبراهيم.. أتمنى لو أراك لأشمت .. مع أن الشماتة ليست من طبعي..
توقفت أمام منزلي.. وإليزا بانتظاري وابني معها.. أتاني يركض.. ضممته.. استغربت أنه لم ينم.. أغلقت السيارة.. ودخلت المنزل..وأنا أحمل ابني..
وجدت صورة معاذ.. بيدي ابني.. تأملتها.. سألته عنها :
ـ مين هذا يا حبيبي..؟؟
هز عبودي كتفيه.. ثم قال بعد إصرار مني:
ـ لدال (رجال)..
ـ مين الرجال هذا؟؟
هز كتفيه مرة أخرى.. مسيكن يا عبد المجيد.. لا تعرف معنى كلمة بابا..
.......................................................................
حصلت على أموال كثيرة بعد لوحاتي.. حاولت إشغال نفسي كي لا أشعر بفراقك يا بدر.. طبعت رواياتي التي رفضت كل المطابع ودور النشر طبعا احتجاجا بأن اسمي غير معروف..كم عذبتي رواياتي..
حتى الكتاب الذين تعاملت معهم .. رفضوا الإدلاء حتى ولو برأي عن كيفية عمل ذلك .. أذكر أنني أرسلت رسالة إيميل لأحد الكتاب قبل أن أقوم بطباعة أول رواية لي والتي طبعتها بعد أن جمعت مكافئاتي التي أحصل عليها من الجامعة.. ولم يجب على رسالتي إلا بعد ستة أشهر.. كنت حينها قد وزعت روايتي على بعض المكتبات..
بـ سعير النازف.. عفوا .. أعني عسير.. بل مملكة القلب النازف.. الرواية تعتمد على مال المؤلف ولو كان يكتب انحطاطا أخلاقيا.. على قدر ميزانية الكاتب يكون مشهورا..
وال7مؤسسات تنتهز الفرصة هي الأخرى.. ترفض التوزيع إلا ما سيحقق لها ربح مالي كبير..
أسماني نادي أبها الأدبي .. أديبتنا الصغيرة.. كنت أصغر أديبة.. كتبت من في الـ15 من عمري.. وقوبلت بالإهمال والتحطيم..
فخري بنفسي لم يعادله أي شيء لم قال لي ديفيد المسئول عن ترجمة رواياتي وطباعتها أنه لو علم بذلك لأدخلني مجموعة "جينيس" ..
ضحكت في وجه ديفيد لما قال لي: أنا المدير لعام لشركة التوزيع..
تذكرت حسين الذي تعاملت معه إلا أن عملي معه فشل.. ظل يغازلني.. يضحك معي.. قرأ روايتي.. وأرسل لي التعليق مع أنني لم أطلب منه إلا من باب المجاملة لما قال لي أنه سيقرأها..كنت
أنطق بكلمة واحده يضحك بهستيريا.. شككت في أمره..صار يتصل في ساعات متأخرة من الليل.. سبب لي مشاكل مع إبراهيم المريض..
شباب الجنوب كلهم هكذا.. حتى لما قمت بعمل أول معرض لي.. كان افتتاح المعرض بالنسبة لي.. بداية لموسم الـ مغازلة.. يتصل الجميع على رقمي بحجة الرغبة في شراء اللوحات.. والنتيجة أنهم وجيه متعددة لعملة حسين.. أتذكر لما قالت لي وردة : تغازلين شيعي مرة وحدة..
مما أشعرني بالخوف.. خشيت من كونه يريد الانتقام مني لأنني سنية..
الفتاة في الجنوب لا يمكن أن تحصل على حب عفيف..لكن الباحثون عن الحرام كثير..
.....................................................................................
عشت على جرعات الحياة التي تبعثها لي يا بدر بين الحين والآخر.. عشت على اتصالاتك التي أدخل معها عالم آخر.. لكن لما انقطعت عني فترة طويلة ولم تعد تجب على اتصالاتي.. شعرت أن البعيد عن العين بعيد عن القلب مثل صحيح..
في كل مرة أفكر بالعودة إلى السعودية.. أخاف من ردة فعل أهلي.. أخاف من انتظاري لبدر أن يضيع سدى.. بعد بدر جعلني أهمل عواطفي وأفكر بعقلي.. بمجرد أن أفكر في أنني سأمضي عمري هنا وهناك.. بدون زواج فقط لأربي ابني.. أتألم كثيرا على حالي..
هنا بكندا.. قد أستطيع الزواج بكندي مسلم.. لكن هناك لن أستطيع الزواج إلا من أخ معاذ.. وبدون زواج لن أتحمل زوجة ابراهيم ولا حتى ابراهيم نفسه ان لم يكن والدي على قيد الحياة.. وإن وفى بدر بوعده وتزوجني فسيأخذون ابني مني.. آه على قلب نزف حتى نفذ دمه..
ولدي أصبح في سيبدأ في الرابعة من عمره.. ربيته أحسن تربية.. لكنه نشأ شقيا قاسيا.. لابد من وجود أب.. وأنا لم أعد أحتمل بقائي وحيدة..
كتبت لك يا بدر وكلي أمل بأن يكون انقطاعك بسبب الظروف.. لا سبب آخر.. كتبت لك بقلب نازف:
عد إلي حبيبي.. لا تخجل مني
عد إلى قلب هادئ يحتوي نبضاتك
عد إلى موسيقى نحن عزفناها
عد.. واسحق كبرياءك
عد لنحيا من جديد..
عد وامسح قطرات قلبي النازف
عد إلي كي أعود لحياتي
...................
أحبك وأنت معي
أحبك رغم جفائك
أحبك حتى بعد أن رحلت
أحبك حتى إن لم تعد
.....
حروفي شهود وفائي
وقصيدي حكاية حبي
تمنيت وليت الأماني تتحقق
وكتبت وعشت مع أحلامي
وجدتني أرسل خواطر نفسي إليك
لأثبت لك أثرا محته الأيام
ولأغفر لك إن محوت مع الأيام آثاري وذكرياتي..
.......................................................................
لم أفكر يوما بالعودة إلى أرض الوطن.. دوما أنشغل حتى بالتفكير فيه.. تتطبعت بعادات الكنديين.. أصحو لأتناول قهوتي ثم أقرأ الأخبار.. أمشي قليلا الصبح.. وأعود لأتناول وجبة الإفطار.. أرسل طفلي إلى تنمية التعليم المبكر..أسهر الليل في حال العمل.. أصبحت أقدر المواعيد.. و أحترم البيئة.. أشياء كثيرة يأمرنا بها ديننا لينفذها هؤلاء الغرب من باب الولاء للوطن..
أتتني إشارات القدر التي لم أفهمها ولم أعطي نفسي فرصة للتفكر فيها.. لكن الإشارة ه